الأحد، 25 مارس 2018

من مروءات البهرة  في عدن (قديماً وحديثاً)




بقلم د/ مجيد جميل ثابت


٢٥مارس ٢٠١٨



في أثناء حرب صيف ١٩٩٤م كان في الهند عدد غير قليل ممن تقطعت بهم السبل من أبناء عدن، وكانوا يعدون بالمئات، ولقد روى لي أحدهم أنه وعندما لم يستطيعوا العودة إلى عدن، فقد ذهبوا إلى قنصلية اليمن في بومبي (ممبي) طالبين منها المعونة والحل، فكان أن نظر إليهم مسؤول القنصلية بسخرية، وقال لهم: "إنكم كثيرون تصلحوالأن تصلّوا جماعة، فاذهبوا وعينوا إماماً عليكم لهذا الأمر!!“ ولم يقدم لهم أي حل أو عون.


وصل حينها إلى مسامع سلطان البهرة في الهند، مايعانيه أبناء عدن المنكوبون في بومبي، من تقطع السبل، فما كان منه إلا أن أمر ( وعلى نفقته) بإسكانهم جميعاً في فندق لائق كانوا يحصلون منه على وجبة الإفطار، وتم ترتيب مطعم إيراني ليقوم بتوفير وجبة  الغذاء لهم جميعاً، خلال كل فترة مكوثهم في الهند إلى أن انتهت الحرب وتمكنوا جميعاً من مغادرة بومبي..


حدثت تلك المكرمة من سلطان البهرة دون منٍّ أو أذى، ولم تذكرها صحافة التلميع، فتلك الأخلاق هي امتداد لأخلاق البهرة وماعُرِف عنهم في عدن...

                     **********
بعد ذلك التاريخ بحوالي عشرين عاماً تجددت المكرمات البهرية لعدن وأهلها؛ ففي هذه المرة وخلال زيارة سلطان البهرة ( مفضل سيف الدين) لعدن، والتي كانت في شهر مارس ٢٠١٤م. كان العرض السلطاني لمحافظ عدن حينها، بأن يتكفل سلطان البهرة ببناء مستشفى ضخم في كريتر يضم كل المساحة التي كان قائماً عليها مستشفى الشعب، على أن يكون هذا المستشفى هدية من السلطان. وتم كذلك تدارس غيرها من الأمور الاستثمارية. وبالطبع حدثت الأحداث المتسارعة بعدها، وإلى يومنا هذا، ولم نجد من يتابع هذا الأمر مع السلطان، فالكل مشغول بأمور الجيب وماسيأتيه من  الغيب.


                    **********
ولمن يعشق قراءة تاريخ عدن والتعرف على نبل وشهامة من سكنوا فيها؛ أهدي القصة التاريخية التالية التي حدثت في عهد بني زريع حكام عدن وأجداد البهرة. وهي قد وردت في كتاب المؤرخ العدني الشهير: حمزة علي إبراهيم لقمان. (قصص من تاريخ اليمن)، ولقد حرصتُ على أن أضبطها بالشكل (التشكيل) لجمالها، ولأنها تصلح أن تُدرَّس لطلابِنا لتعريفهم بثرات عدن وتاريخها.

والداعي المعظم المذكور في القصة  هو من حكام بني زريع الذين كانوا يحكمون عدن في زمن الدولة الصليحية، ثم انفردوا بحكمها وبحكم اليمن بعد زوال دولة الصليحيين.
والصليحيون، كما هو معروف ومنهم ملكة اليمن المشهورة (أروى)، ومن بعدهم بنو زريع هم من الشيعة الإسماعيلية الذين يُنسب إليهم البهرة، وهم أجداد البهرة، وقد حكموا اليمن وعدن لأكثر من مائة عام.


إليكم القصة:




في عامِ ١١٤٤م، وفي عهد بني زريعٍ، رستْ سفينةٌ في ميناءِ صيرةَ، ونزلَ ربَّانُها عندَ منتصفِ الليلِ يطوفُ الشوارعَ مفكراً ممعناً النظر فيما حولَه، حتى رأى أمامَهُ داراً جميلةَ المنظرِ، تنيرُها الشموعُ، وتنبعثُ من نوافذِها الروائحُ العطريةُ.

نظرَ الربانُ إلى البابِ الواسعِ المغلقِ، ووقفَ عندَهُ متردداً، وتلفتَ يميناً ويساراً ثم تقدمَ ودقَّ البابَ. بعد لحظاتٍ فُتِحت كُوةٌ في البابِ وظهرَ وجهُ صبيةٍ سمراءَ تفركُ عينيها لتبعدَ عنهما آثارَ النومِ، وتفحَّصَتْ وجهَ القادمِ وملابسَهُ بانتباهٍ وحذرٍ، وقالت: "من تريدُ أيُّها السيدُ وما اسمُكَ وماعملُكَ؟!“

أجابَها: " أنا ربانُ سفينةٍ جئتُ أطلبُ ربَّ هذهِ الدارِ“.

قالتْ الصبيةُ: " هلا انتظرتَ قليلاً حتى أرى إن كانَ متيقظاً“
وصعَدَتْ إلى جناحِ سيدِها فرأتهُ يطالعُ بعضَ الأوراقِ. ولما أخبرَتهُ بالقادمِ أمرَ بإدخالِهِ. وحينَ ظهرَ الربانُ أمامَ بابِ الغرفةِ، وقفَ لهُ ربُ الدارِ وحيا كلٌ منهما الآخرَ. وبعدَ أنْ استقرَّ بالربانِ المقامُ قالَ متردداً: " سيدي أنتَ لا تعرفني وأنا لا أعرفُكَ، فأنا غريبٌ عنْ هذهِ الديارِ، لم أصِلْ إليها إلّا قبيلَ منتصفِ الليلِ على سفينتي“.


قالَ ربُّ الدارِ: " أهلاً بكَ وسهلاً. إنَّ عدنَ تُكرِمُ الضيفَ، وتُحسِنُ إلى الغريبِ.“


قالَ الربَّانُ: " شكراً لك ياسيدي. لقدْ قضيتُ وقتاً أطوفُ الشوارعَ باحثاً عمَّن يمكنني الوثوقَ فيهِ“.


قالَ ربُّ الدارِ: " وهلْ وجدتَهُ؟“.


أجابَ الربانُ: " نعمْ ياسيدي، إنَّ منظرَكم يوحي إلى النفسِ بالاطمئنانِ“.


قالَ ربُّ الدارِ: " يمكنكَ أنْ تثقَ بي أيُّها الرُّبَّانُ“.


قالَ الربانُ بخجلٍ: " إنّهُ سِرٌّ خطيرٌ، قد يكلفني حياتي“.


قالَ ربُّ الدارِ: " إنَّ حياتَكَ في مأمنٍ عندي.. وإذا كانَ سرُّكَ لا يتعلّقُ بقضيةِ قتلٍ فإنني أعدُكَ بشرفي بكتمانهِ“.


قالَ الربانُ: " ياسيدي، لقد قدمتُ الليلةَ على سفينتي من الغربِ تحملُ أموالاً ثمينةً لا أعرفُ كيفَ أخفيها وأينَ أخفيها“.


قالَ ربُّ الدارِ: " وممن تخافُ عليها؟“.


قالَ الربانُ: " من ملكِ هذهِ الديارِ الداعي المعظَّمِ ابنِ زريعٍ ومِنْ نوّابهِ!“.


نظرَ ربُّ الدارِ طويلاً ثُمّ قالَ: " هلْ ترغبُ في إخفائِها عندي؟“.


أجابَ الربانُ: " نعمْ ياسيدي لو قبلتَ، وأنا مستعدٌ أنْ أسلَّمَ عمولةً خاصةً“.


قالَ ربُّ الدارِ مبتسماً: " لا تخَفْ من المعتدينَ. احملْ كلَّ ما تريدُ إخفاءَهُ إلى المنزلِ الرابعِ على يمينِ هذا الشارعِ، وسأرسلُ بمن يكونُ في استقبالِكَ هناكَ“.


غادرَ الربانُ الدارَ مطمئناً عائداً إلى سفينتِهِ، وطلبَ من التجارِ الذينَ معَهُ أنْ يحملوا كلَّ مايريدون إخفاءَهُ إلى المنزلِ الذي أشارَ إليهِ ربُّ الدارِ.

ثم نامَ الربانُ هادىءَ البالِ.


في صباحِ اليومِ التالي ذهبَ الربانُ إلى مجلسِ الداعي المعظمِ كعادةِ ربابنةِ السفنِ في تلكَ الأيامِ للتسليمِ عليهِ. ولمّا نظرَ إلى الداعي انهمرَ العرَقُ منهُ غزيراً وارتعدَ جسمُهُ. فقد كان الداعيُ هو نفسَ ربَّ الدارِ.


انشغلَ بالُ الربانِ وتوقعَ أشدَّ ألوانِ العذابِ، ومضَتْ لحظاتٌ كأنها ساعاتٌ طويلةٌ بطيئةٌ، ثمَّ سمِعَ صوتَ الداعي يناديهِ، فلمَّا وقفَ أمامَهُ قالَ لهُ بصوتٍ لا يسمعُهُ غيرُهُ: " إني أنا الداعيُ وربُ الدارِ التي زرتَها البارحةَ، وقد وعدتُكَ بشرفي أن لا أسبِّبَ لكَ مكروهاً، وأنا عندَ وعدي. وكنتُ قد أدركتُ أنَّكَ تتهربُ من دفعِ الرسومِ الجمركيةِ والعشورِ على الأموالِ الثمينةِ التي تحملها سفينتُكَ.
واعلم الآنَ أنني وهبتُكَ المنزلَ الذي خزنتَ البضاعةَ فيهِ وألف دينارٍ مصاريفَ إقامتِكَ في عدنَ، لكنني أحذِّرُكَ مِنْ أنْ تفعلَها ثانيةً“.


ولمَّا اطمأنَ الربانُ قالَ: " ولِمَا فعلْتَ كلَّ هذا ياسيدي الداعيُ؟“


أجابَهُ الداعيُ: " لأنّكَ نزلتَ ضيفاً عليّ في داري، وأعطيتُكَ وعدَ الشرفِ، والضيفُ والشرفُ غاليانِ“


وبعدَ أنْ غادرَ الربانُ المجلسَ أمرَ الداعيُ ببناءِ سورٍ على الشاطىء ليحُوْلَ دونَ تهريبِ الأموالِ من السفنِ.
                          **********

انتهتِ القصةُ ولمْ تنتهِ معاناةُ البهرة في عدن، فمنذ أن كتبت بحثي التاريخي عنهم المسمى: (البهرة  والهجرة الثالثة)(1)، قبل أكثر من عامين، فهم مايزالون لا يشعرون بالأمان في عدن؛ فأعمال النهب ماتزال تطاردهم، والمختطفون منهم مايزالون في علم الغيب، والكثيرون منهم يعيشون خارج عدن، سواء كان في صنعاء أو الهند أو غيرها، حيث يشعرون بالأمن ووجود دولة تحميهم.



1)- http://dr-mageedgameel.blogspot.com/2018/03/blog-post_6.html?m=1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق