الاثنين، 8 أغسطس 2022

في يوم القطط العالمي: الكلمة العدنية (بِسَّة)؛ هل هي عامِّيَّةٌ أَمْ فصيحةٌ؟! وحكاية عن قطة من تاريخ عدن

 في يوم القطط العالمي: الكلمة العدنية (بِسَّة)؛ هل هي عامِّيَّةٌ أَمْ فصيحةٌ؟! وحكاية عن قطة من تاريخ عدن



✍️ د. مجيد جميل ثابت


الإثنين 8/8/2022


حلَّتْ علينا في يومِنا هذا الثامنِ من أغسطس (8/8)، الذكرى العشرونَ ليومِ القططِ العالميِّ، والذي بدأَ الاحتفالُ بهِ لأوَّلِ مرَّةٍ في العامِ 2002 مِنْ قِبَلِ الصندوقِ الدوليِّ للعنايةِ بالحيوانِ.


ولا شكَّ أنَّ الكثيرينَ منّا قد مرّوا في حياتِهِم بتجرِبَةٍ أو تجارِبَ مع هذا الحيوانِ الأليفِ الذي إنْ أنتَ عشتَ بِقُرْبِه؛ فسيتغيّرُ الكثيرُ مما لديكَ من معلوماتٍ وانطباعاتٍ عن هذا الحيوانِ الجميلِ. 


وخلالَ مسيْرَةِ بحثي المعجميِّ اللُّغويِّ الطبيِّ؛ استوقفتني كثيرٌ مِنَ الْكلماتِ العَدَنِيَّةِ لمسمياتٍ عديدةٍ حولَنَا، وأدركتُ مدى ارتباطِ هذه الكلماتِ العدنيّةِ باللغةِ العربيةِ الفصحى، وعدمِ عامِّيَّتِها كما قدْ يظنُ البعضُ، ومِن ضمنِ تلكَ الكلماتِ: البِسَّة والبِس والعُرِّي. 


لقدْ أسعدني أنَّ باحثاً عدنياً تفخرُ عدنُ بمثلِهِ وهو: المحامي (أمين شمسان) قدْ تبحَّرَ وأسهبَ في هذا المجالِ، وألَّفَ للمكتبةِ العدنيةِ معجماً لُغَوياً عظيماً- اختصَّ بكلماتِ اللهجةِ العدنيةِ وتبيانِ أصولِها وإثباتِ أصلِها الفصيحِ- وهو أشبهُ بالموسوعةِ اللُّغويةِ والأدبيةِ المصغّرةِ، وأسماهُ (لسان عدن) تيمُّناً بأشهرِ المعاجمِ العربيةِ (لسان العرب) لمؤلِّفِهِ العلَّامةِ جمال الدين ابن منظور. وهذا المعجمُ العدنيُّ يستحقُ أن يقتنيه كلُّ عدنيٍّ في مكتبةِ بيتِهِ، لأنَّ غايتَهُ جَمْعُ ما أمكنَ مِنَ الكلماتِ العدنيةِ، وإثباتُ الارتباطِ الوثيقِ للكثيرِ من هذهِ الكلماتِ باللغةِ العربيةِ الفصيحةِ، وعَدَمُ عامِّيَّتِها؛ كما قدْ يظنُّ البعضُ. 


ومما جاءَ في معجمِ (لسان عدن) إنَّ (العُرِّي) هو الذَّكَرُ الضخمُ مِن القِططِ، لأنَّهُ شبيهٌ بالأسدِ، كونهما مِن فصيلةِ القططِ، لهذا سُمِّي بالعُرِّي، ولا يُقالُ للقِطَّةِ (عُرِّي)، والجمعُ (عَرَاري). 


كما ذَكَرَ لسانُ عدنَ: إنَّ (بَسْ) هي صَوتٌ للزَّجرِ والطردِ لا تُقالُ في عدنَ إلا للقططِ، وتكونُ مع مَدِّ حرفِ السّينِ. وتُقالُ (بَسْ) كذلكَ؛ بصوتٍ هادئٍ منخفضٍ أقربُ للهمسِ؛ لتسكينِ وتهدئةِ القطِّ عندَ دعوتِهِ أو للإمساكِ به فيقولُ: بِسْ بِسْ. 

لقد انتهى إلى هنا ما جاءَ في الجذرِ (بس) و (بسس) في هذا المعجمِ ما يتعلقُ بالحديثِ عَنِ الْقِطَطِ. 


وللأسفِ فقدْ فاتَ على معجمِ لسانِ عدنَ أن يبحثَ في أصلِ كلمَتَي البِسِّ والبِسَّةِ في هذا البابِ- وهما الكلمتانِ اللَّتانِ يتداولهما أبناءُ عدنَ للإشارةِ إلى ذَكَرِ وَ أنثى الحيوانِ المعروفِ بالقِطِّ- وإثباتِ أنهما كلمتانِ فصيحتانِ، ذَكَرَهما العديدُ من معاجمِ اللغةِ العربيةِ. 


وكما أشَرْتُ إنَّهُ مثلما يُطْلِقُ أبناءُ عدنَ على الحيوانِ المعروفِ بالقطِ أو الهِرِّ، اسْمَ (بِس وبِسَّة على الذكر والأنثى من ذلك الحيوان)، فتتعددُ وتختلفُ أسماءُ هذا الحيوانِ في مناطقِنا اليمنيةِ المختلفةِ شمالاً وجنوباً؛ فمنهم من يسميه: البَسَمَ، ومنهم من يسميه: الدِّمَّةَ، ومنهم من يسميه: العُسني... إلى آخرِهِ من المسمياتِ في كلِّ منطقةٍ أو  محافظةٍ، مايستدعي من أبناءِ تلكَ المناطقِ البحثَ عن أصولِ تلكَ الكلماتِ. 


لقدْ وجدتُ مِنْ خلالِ البحثِ في معاجمِ اللُّغةِ المختلفةِ: إنَّ كلمةَ (بِس) وَ (بِسَّة) التي نطلِقُها على القِطّةِ في عدنَ هي كلمةٌ عربيةٌ فصيحةٌ، أصلُها كلمةُ (البَس)، مفتوحةُ الباءِ، التي ذَكَرَتْها أغلبُ معاجمِ اللُّغةِ العربيةِ؛ والتي تعني الهِرَّةَ الأهليةَ، وقد  كُسِرتْ باؤها عِنْدَ أهلِ عدنَ كعادتِهم في تغييرِ حركاتِ بعضِ الكلماتِ الفصيحةِ، وهو كذلكَ ما وافقهم عليهِ بعضُ المعاجِمِ. 

وقد أكَّدَ هذا ابنُ عبّادٍ، والزَّمخشريُّ، والقاموسُ، والتَّاجُ، ومحيطُ المحيطِ، وأقربُ المواردِ، والوسيطُ، والَّذينَ ذكروها مفتوحةَ الباءِ، وإنَّها تعني: (القط الأهلي). 


ولقدْ جاءَ في: معجمِ (تاج العروس...) للمرتضى الزَّبيديِّ، و معجمِ (القاموس المحيط) للفيروزأباديِّ، ومعجمِ (محيط المحيط) لبطرس البستاني، وفي (متن اللغة) أيضاً: أنَّ العَامَّةَ تكسِرُ الباءَ وتقولُ: (بِس).


لقد تفرَّدَ أحمد رضا صاحبُ معجمِ (متن اللُّغة) وقال: إنَّها حجازيةٌ.


أمَّا معجمُ المُنْجِدِ فقد قالَ: إنَّ (البَِس) بِكَسْرِ الباءِ وفتحِها، هو حيوانُ السِّنَّوْرِ. والسِّنَّورُ هو الهِّرُّ كما تذكرُ المعاجمُ.


ومِثلُ المنجدِ، ذكرَ معجمُ الرائدِ إن البَِسَ بفتحِ وكسرِ الباءِ هوَ الهِرُّ.


ويُجْمَعُ البَسُّ على (بِسَاس). 

                          *******





الشيخ العدني جوهر وبِسَّتُه (سعادة) 




ومِنْ طرائفِ القططِ ومايرتبطُ منها بتاريخِ عدنَ؛ فأذكُرُ في هذهِ العُجالةِ حكايةً طريفةً ذكرَها ابنُ عدنَ المؤرخُ الفذُّ (حمزة لقمان) في إحدى كتبهِ التاريخيةِ الماتعةِ، عن شيخِ عَدَنَ (البهاء جوهر)، وقصتِه معَ بِسَّتِه (قطته) سعادة. 


والشيخُ جَوْهَرُ هو صاحبُ المسجدِ الذي عُرِفَ باسمِهِ في كريترَ، وهو المتوفي عام 1228م، و هو كما يقولُ المؤرخُ حمزة إبراهيم لقمان: قَدْ كانَ رقيقَ القلبِ، نبيلَ المشاعرِ، يُحِبُ الفقراءَ ويحنُو عليهِم، ويجالسُهم. وكانَ كريماً مبسوطَ اليَدِ للفقراءِ والمساكينِ وأبناءِ السبيلِ، يكادُ منزلُهُ لا يخلو مِنَ الضيوفِ مِنْ مختلفِ طبقاتِ الناسِ؛ فالكلُّ في نَظَرِهِ سواءُ. 


وكانت لدى الشيخِ جوهر بِسَّةٌ (قطة) اسمها (سعادة)، وكانَتْ جميلةَ المَنْظَرِ، ناعمةَ الملمسِ، شديدةَ العنايةِ بنظافتِها، وكانَتْ فخورةً بسيِّدِها وربيبِ نعمتِها الشيخِ جوهر، الّذي أحبها وحنا عليها، ودلَّلها وكأنَّها من أولادِهِ الأعزاءِ! وقَدْ كانَ ذكاءُ (سعادة) اللامعُ باعثاً على الدهشةِ. 


ومِنْ عجائبِ الأمورِ التي رُويتْ عَنِ الْقِطّةِ سعادةَ؛ أنها كانتْ تَقِفُ في (مَحلَّة الضيوف) المُلْحَقَةِ بمنزلِ جوهر، فإذا أقبلَ عددٌ من الضيوفِ؛ دخَلَتْ إلى المنزلِ وماءَتْ بَحَسَبِ عددِ الضيوفِ الّذينَ رأتْهُم، وهكذا يَعرِفُ أهلُ البيتَ عددَ الضيوفِ؛ فيهيئنَ أرغفةً مساويةً لعددِ الضيوفِ. 


وقد رُوي أنهُ في أحدِ الأيامِ وَصَلَ اثْنَا عَشَرَ (12) غريباً، ونظَرَتْ إليهم سعادةُ، وذهبتْ إلى المنزلِ وماءتَ عَشْرَ (10) مراتٍ فقطْ، فأدركَ أهلُ البيتِ إنَّ الضيوفَ عشرةٌ، وأرسَلْنَ معَ الخادمِ عشرةَ أرغفةٍ، أو مايكفي العَشَرَةَ، ولمّا وجدَ الخادمُ إنهم اثنا عشرَ، تعجّبَ من الخطأِ الذي وقعتْ فيه سعادةُ لأولِ مرةٍ، فخالفتْ عادَتَها، وعادَ إلى المنزلِ ليحْضِرَ طعاماً للضيفينِ المتبقيينِ، إلّا أنّ سعادةَ قفزتْ وحالتْ بينَهُ وبينهما!! وحاولَ الخادمُ أنْ يبعدَها، لكنّها صرختْ بوحشِيَّةٍ لم يعهدْها فيها، ومنعتهُ من الاقترابِ مِنَ الْغَريبَيْنِ!! 


وخشي الخادمُ غضبَ الشيخِ (جوهر)، فأسرعَ إليهِ يخبرُهُ بما جرى. وهزَّ الشيخُ رأسَهُ ونادى سعادةَ، فلمّا أقبلَتْ؛ نظَرَ إليها طويلاً وربَّتَ على شعرِها الأملسِ، ثُمَّ طلبَ الغريبَينِ، ولمّا قَدِمَا سألَهُما عَنْ حالِهِما، فصرَّحَا لهُ بأنَّهما مِن غَيْرِ المُسْلِمِينَ، وقدْ خَرَجَا من بلادِهما مُتْنَكِّرَينِ، ولَمْ ينكشفْ أمرُهُمَا إلَّا معَ القطةِ سعادة، وتحدَّثَ معهما الشيخُ طويلاً، ثمَ طَلَبَ منهما البقاءَ في ضيافتِهِ، وبعدَ أيامٍ أسْلَمَ الرَّجُلانِ على يَدِ الشيخِ، وحَسُنَتْ سيرتُهُما، وحُمِدَتْ طريقتُها بفضلِ اكتشافِ سعادة. 

وبقي الرجلانِ مع الشيخِ (جوهر) حتى توفاهما اللهُ إلى رحمتِه، فَدُفِنا في القبرينِ الملاصقَينِ للجدارِ القِبليِّ لمسجدِ جوهر بين التربةِ وقِبلةِ المسجدِ. 

انتهى. 




ولا شكَّ إنَّ للقططِ طرائفَ وحكاياتٍ كثيرةً لا يسعها المجالُ هنا. 


لقد أشارَ باحثونَ أمريكيونَ إلى أنَّ حُبَّ تربيةِ واقتناءِ قِطٍّ أو كلبٍ يعكسُ درجةَ الذكاءِ أيضا، وأنَّ محبي القططِ هم عادةً أكثرُ ذكاءً من محبي الكلاب!! بحسب موقع دوتشڤيلله الإخباري. 


ولاشكّ أنَّ هولاءِ الأذكياءَ من محبي القططِ سينتابهم الحزنُ عندما يعلمونَ أنَ الدراساتِ الأخيرةَ في العام ِ الماضي أثبتتْ أنَّ القططَ أكثرُ عرضةً لالتقاطِ فيروسِ كورونا مِنَ الكلابِ، وذلكَ بعدَ تحليلِ مصلِ الدمِ لِمَا مجموعِهِ 239 قطًا و510 كلباً أليفًا. حيثُ أظهرت النَّتائجُ أنَّ 8 في المائةِ من القططِ وأقلَّ من 1 في المائةِ مِنَ الكلابِ أصيبوا بفيروسِ كورونا، مما يشيرُ إلى أنَّ الفيروسَ يمكنُ أنْ ينتقلَ بينَ الحيواناتِ الأليفةِ، وإنَّ القططَ أكثرُ عرضةً للإصابةِ بهِ مِنَ الكلابِ.

الإثنين 8/8/2022





        

الخميس، 18 فبراير 2021

إلى الدكتور السعدي مع التحية (ذكرياتٌ بمعيَّةِ قامةٍ علميةٍ)

إلى الدكتور محمد السعدي مع التحية

(ذكرياتٌ بمعيَّةِ قامةٍ علميةٍ)






كُنْتَ وماتزال منذ عرفناك- في مستشفى عدن العام- كتلة من النشاط والحيوية، وسبّاقاً في كل أمر يخص العلم والعملية التعليمية... 



أتذكّرُ تلك اللقاءات الصباحية الـ  meetings، في قسم الباطنة مستشفى عدن، قبل أكثر من عشرين عاما نهاية التسعينيات- والتي كنّا نَسعَدُ فيها بأن نكون بمعيتك؛ ليس لنستعرض حالات المرضى حديثي الترقيد فحسب، ولكن لتتم أيضاً مناقشة مواضيع كاملة في أمراض الباطنة المختلفة، يتم تحديدها مسبقا من قبلكم؛ لنطّلعَ من خلالها على آخر مستجدات العلم بشأن هذا المرض أو ذاك، في وقت كان الإنترنت مايزال في بداياته عندنا، وكان يصعب علينا أن نطلع على آخر ما استجد من معلومات، فكنا نجد كماً من المعلومات نرفد به ذخيرتنا العلمية، من خلالكم أنت و ثلة الاختصاصيين الرائعين في المستشفى.



ولايزال يحضرني الجهد العظيم الذي بذلتموه لتدشين أول مؤتمر علمي لطب الباطنة في مستشفى عدن العام نهاية التسعينيات- والذي انعقد في المستشفى نفسها، وكان تتويجاً رائعاً للجهودالعلمية المميزة في هذا المجال حينها، والذي تلاه في العام التالي؛ عقدكم للمؤتمر الثاني لطب الباطنة أيضاً، و في فندق عدن، ليكون رافداً مستمراً للعمل الأكاديمي في المستشفى والمحافظة بأحدث المعلومات و ما توصلت إليه آخر الأبحاث حينها...



أتذكر كذلك كيف كان لك ولفريقك الرائع قصب السبق في البدء باستخدام عقّار الستريبتوكيناز Streptokinase على إحدى حالات الاحتشاء القلبي MI ، كأول حالة يتم استخدام هذا الدواء لها، في المستشفى والمحافظة. وأتذكر كَمَّ القلق الذي كان ينتاب الكل، والمتابعة المستمرة و الدقيقة لحالة المريض، والتّحسن الدراماتيكي الذي حدث له، ومدى الفرحة التي انتابت المريض وانتابتنا بإذابة الجلطة، وتعافي المريض.



وأتذكر كيف كان لكم الدور الفعال عندما كنتَ نائباً للمدير في المستشفى نفسها في تأسيس غرفة الــ Post ICU، والتي عملتُ فيها أنا بمعية الدكتورة الرائعة خديجة أمان وزملاء آخرين، لنقوم بمتابعة الحالات المحالة من وحدة الـ ICU، بعد استقرارها هناك، لنجهزها للخروج من المستشفى.



وما أزال أتذكر دعوتك لي، مطلع العام 2000، لحضور محاضراتك في الـ ECG في مستشفى الجمهورية، لتؤكد مدى حرصك واهتمامك بتزويد تلاميذك بكل جديد، ولتحريك المياه الراكدة فيهم دوما...



و بعيداً عن الجانب العلمي، وفي مجال الأدب والفنون؛ كم كان يسعدني اهتمامك باللغة العربية، وإلمامك بكثير من دقائقها، وكأنك أحد خبرائها، ومثلها حبك للشعر وإجادتك له، وهو ما توجته لنا في رائعتك الأخيرة: نشيد مؤتمر جمعية القلب...



وأخيراً، وليس بأخير بإذن الله، هاهي ذي هذه التظاهرة العلمية العظيمة، تُختتم في يومنا هذا (المؤتمر الثاني لجمعية القلب)، والتي جمعتَ فيها هذا اللفيف من أعظم أطباء القلب وغيرهم، في عدن وأغلب محافظات الجمهورية، ليقوموا فيها بتزويد الحضور بالجديد والممتع مما توصلت له آخر الأبحاث وخبراتهم العملية.  



سر إلى الأمام ترعاك عين الله، وبارك الله في كل جهد تقدموه لنا في هذه المحافظة.



د. مجيد جميل ثابت

عدن ١٨ فبراير ٢٠٢١

 

الأحد، 2 ديسمبر 2018

               غاندي (مدرسةُ الفخرِ والتميُّزِ)






في رحلةِ البحثِ عنْ مَدْرَسَةٍ لأولادِهما؛ ينتابُ كلُّ أبٍ وأمٍّ خليطٌ من المشاعرِ تتوزعُ بينَ الرغبةِ في اختيارِ المدرَسةِ ذاتِ المواصفاتِ المناسبةِ؛ مِنْ حيثُ البنيةُ التحتيةُ، وجودةُ التعليمِ، والانضباطُ في العمليةِ التعليميةِ، ونوعيةُ المعلمينَ، ومدى كفاءتِهم، وكذا مستوى الرسومِ التي تفرضُها عليهم.


لقد كنتُ أحدَ أولئكَ النفرِ الذينَ خاضوا تلكَ المعمعةَ، قَبْلَ أكثرِ مِنْ خمسةَعَشَرَ عاماً؛ حيثُ قادني ذلكمُ البحثُ، لاختيارِ المَدْرَسَةِ المميزةِ ( مدرسةِ المهاتما غاندي الأهليةِ) لتكونَ خيرَ ملاذٍ لابنتَيَّ، واللتينِ تخرجتا منها في عامِنا هذا، والذي قَبْلِهِ.



ماالذي وجدتُهُ في مَدْرَسةِ غاندي؟


خلالَ (15) خمسةَ عشرَ عاماً دراسياً مِنْ مشوارِ ابنتيّ، في جنباتِ مدرسةِ المهاتما غاندي، وجدتُ أنَّ هذهِ المدرسةَ هي أفضلُ مايأمُلُهُ كلُّ أبٍ وأمٍّ لأولادِهما؛ فهي تضمُّ كادراً إدارياً متميزاً، ونخبةً من المعلمينَ، من ذوي الخبرةِ والكفاءةِ والتميُّزِ، لا يبخلونَ عن تقديمِ عصارةِ جهودِهم ومعرفتِهم لفلذاتِ أكبادِنا، ولا يتوانونَ عن غرسِ الأخلاقِ والقِيَمِ المجتمعيةِ الفاضلةِ؛ النابعةِ من تعاليمِ دينِنَا الحنيفِ، ومن المفاهيمِ الإنسانيةِ الساميةِ.
ولقد كانَ ذلكَ الكادرُ يضمُ خيرةَ المعلمينَ الذينَ يتمُّ استعارتُهم من دولةِ الهندِ، إضافةً إلى كادرٍ يمنيٍ متميزٍ، وكذا بعضَ المعلمينَ من جنسياتٍ أخرى، وكلهم من ذوي الكفاءةِ العاليةِ.


وبسببِ هذا الكادرِ من الأجانبِ؛ فقد علمْتُ أنَّ هذهِ المدرسةَ تنفقُ جُلَّ إيراداتها- التي تجنيها من الرسومِ- في تغطيةِ رواتبِ هؤلاء المعلمينَ، ومتطلباتِهم، وهي متميزةٌ في هذا الجانبِ، وكذا بما تدفعُهُ من أجورٍ للمعلمين، والعاملينَ فيها. رغمَ أنَّ هذهِ المدْرَسةَ تفرِضُ رسوماً تعتبرُ مناسبةً جداً مقارنةً بما تفرضُهُ المثيلاتُ مِنْ المدارسِ الأهليةِ الأخرى: أكانَ ذلكَ في محافظةِ عدنَ، أو غيِرِها مِن المحافظاتِ.


والكادرُ الهنديُ الموجودُ في المَدْرَسةِ ( والمتميزُ على الدوامِ) هو بالطبعِ لتغطِيةِ الموادِ العلميةِ، التي يتمُ اختيارُ مناهجِها وفقاً لأحدثِ المناهجِ المعتمدةِ من أكسفورد أو كامبريدچ، والتي يتمُ تدريسُها في المدارسِ البريطانيةِ؛ ووفقاً لها يستطيعُ الطلبةُ أنْ يحصلُوا على شهاداتِ ال IGCSE، أثناءَ دراستهم للثانويةِ، وهي الشهادةُ التي تمنحهم الأفضليةَ للانضمامِ للجامعاتِ البريطانيةِ والعالميةِ.


ومما تمتازُ بهِ مدرسةُ غاندي- وبتفردٍ- هو مختبرُها العلميُّ المميزُ، الذي لا تجدُ له نظيراً في أيِّ مدرسةٍ أخرى- كما أكدَ على ذلك أحدُ مدراءِ المدارسِ الأهليةِ الخاصةِ- وهو الأمرُ الذي يرتقي بالقدراتِ والمخرجاتِ العلميِة والإبداعيةِ للطلبةِ في هذهِ المدرسةِ.


وكعادةِ هذهِ المدْرَسةِ في احترامِ المواعيدِ الأكاديميةِ- وبرغمِ ما طرأَ ويطرأُ من اختلالاتٍ يوميةٍ، خلالَ السنواتِ الأربعِ الأخيرةِ- فهي تحرصُ على بدءِ العامِ الدراسيِّ في موعدِهِ، وتحرصُ كذلكَ على إنجازِ المناهجِ المقررةِ، خلالَ أيامِ العامِ الدراسيِّ، دونَ إهمالٍ أو تسويفٍ.


ولقدْ علمتُ أنَّ هذهِ المدرسةَ تكادُ تكونُ مؤسسةً غيرَ ربحيَّةٍ؛ حيثُ كانَ- وَقَبْلَ الحربِ-  ماتجنيهُ مِنْ رسومٍ من الطلبةِ، لا يكفي للوفاءِ بميزانيتِها التشغيلِيةِ، (والتي يراها البعضُ مرتفعةً)، ولابدَّ أنَّ هذا الأمرَ قد تعاظمَ خلالَ سنينِ الحربِ الأخيرةِ، وإنه وبدونِ الدعمِ السخيِّ والاهتمامِ الفائقِ مِنْ قِبَلِ الأستاذِ (رشاد هائل)، ومؤسسةِ بيت هائل؛ لما صمدَتْ المدرسةُ وأوفتْ بالتزاماتِها.


وأمرٌ آخرُ لفتَ انتباهي خلالَ الأعوامِ الأخيرةِ؛ ألا وهو طريقةُ الدَّفْعِ التي انتهجتها إدارةُ المدرسةِ، تيسيراً لأولياءِ الأمورِ الذينَ صار تقلُّبُ وزيادةُ سعرِ الدولارِ أمراً يقلقهم، فعَمَدَتْ الإدارةُ مشكورةً إلى تقسيمِ الرسومِ إلى قسمينِ: قسمٌ بالدولار، وآخرُ بالريالِ اليمنيِّ، والذي حُدِّدَ له سعرُ صرفٍ مناسبٍ جداً لأولياءِ الأمورِ، وهو صنيعٌ تُحْمَدُ عليهِ الإدارةُ، وأتمنى أنْ يستمرَّ، تقديراً للظروفِ الصعبةِ التي تواجهُ غالبيةَ الأُسَرِ في عدنَ.


و بعد تحريرِ مدينتِنا عدن، فقد لا حظنا أنَّ الإدارةَ حرصتْ على عودةِ عددٍ لابأسَ بهِ من المعلمينَ الهنودِ، الذين اضطروا لمغادرةِ عدنَ خلالَ الحربِ، كما أنها تسعى لجلبِ المزيدِ منهم، برغمِ أن الكثيرينَ من أولئكَ المعلمينَ يتخوفون من الأوضاعِ في محافظتنا، ويأخذونَ مأخذَ الجِدِّ تحذيرَ الخارجيةِ الهنديةِ لهم؛ بعدمِ ضمانِ أمنِهِم في اليمنِ!!


كانَ هناكَ عددٌ من الفعالياتِ الأسبوعيةِ والسنويةِ، تعذَّرَ أثناءَ سنينِ الحربِ الحاليِة العودةُ لممارسةِ بعضِهَا مثل: ال annual day، والsport day، وال Mole day وغيرها، وهي من أروعِ الفعالياتِ التي كانت تعطي نكهةً خاصةً ومميزةً لهذِهِ المدرسةِ؛ حيثُ كُنَّا نشاهدُ العديدَ من الإبداعاتِ والأعمالِ الشيقةِ للطلبةِ والمعلمينَ. وكَمْ  نأمُلُ أنْ يتمَّ استئنافُ تلك الفعالياتِ.
وبرغمِ ذلكَ فقد استطاعتْ إدارةُ المدرسةِ أنْ تحافظَ على كثيرٍ من الأنشطةِ غيرِها؛ مثلِ المعرضِ السنويِّ، والرحلةِ السنويةِ لمختلفِ السنواتِ. كما قامَتْ الإدارةُ مؤخراً  بتكريمِ أوائلِ الطلبةِ، في مختلفِ السنينِ، وتقديمِ الهدايا الجميلةِ لهم، كإجراءٍ تحفيزيٍّ، تُشكَرُ عليهِ.


ولعلَّ العراقيلَ والمنغصاتِ والإرباكاتِ في ظرفِنا الحاليِّ كثيرةٌ، لذا فإدارةُ المدرسةِ مطالبةٌ ببذلِ المزيدِ من الجهودِ حتى يتمَّ مواصلةُ المسيرةِ التعليميةِ والتربويةِ بأفضلِ مستوىً؛ كما عهدنا من هذهِ المدرسةِ.


أتمنى- ومن أعماقِ قلبي- أنْ تستمرَ المسيرةُ الناجحةُ لهذهِ المدْرَسةِ العريقةِ والمتميزةِ، بقيادةِ مديرِها القديرِ ذي الأخلاقِ العاليةِ، السيد چيمي (Jimmy)، والمعلمةِ القديرةِ الستِ (شهيرة)، وكذلكِ إشرافِ الخبرةِ الإداريةِ  للمهندسةِ الرصينةِ والقديرةِ الست (تحسين)، وبقيَّةِ الطاقمِ الإداريِّ والتعليميِّ، والدعمِ السخيِّ والاهتمامِ الكبيرِ للأستاذِ (رشاد هائل). 



كتبه: د/ مجيد جميل ثابت
عدن
2/ديسمبر/ 2018

الجمعة، 30 نوفمبر 2018

الصوت القادم من السماء (عبدالباسط عبدالصمد) في ذكرى رحيله الثلاثين (٣٠ نوفمبر ٢٠١٨)





لكلٍّ منّا ذكرياته، وأشجانه، خلال مراحل حياته المختلفة، ولعل أجمل الذكريات هي تلك التي ترتبط بالاستماع لفضيلة الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد ( رحمه الله)، فمن منا لم يشنف آذانه ذلك الصوت الشجي، الذي تلى كتاب الله، فأبدع فيه أيما إبداع، وتميز وتفرد في فن التلاوة، ولم يكن له مثيل في هذا المجال.


تستمع إليه فتشعر وكأنك تحلق في الجنة، فتتمنى أن تكون وإياه من أصحاب تلك الجنة!! كيف لا؟! وهو ذاته كان يغمره ذلك الشعور عندما يترنم بتلاوة كتاب الله؛ فعندما سئل الشيخ في إحدى اللقاءات معه عن متى شعر  وهو يتلو، وكأنه يحلق في الجنة؟ فأجاب: "إنه يتذكر إحدى تلك المرات، وهو في الروضة الشريفة، يتلو سورة المزمل، فغمره ذلك الشعور، وأحس وهو يقرأ أنه في الجنة، وليس في هذه الدنيا الفانية.“


تنصت إليه، فتدمع العين من الخشوع، ويحلق القلب في عالم روحاني آخر؛ فإن كنت حزيناً؛ ذهب عنك ذلك الحزن، وإن كنت قلقاً يغمرك الاطمئنان، ويزداد إيمانك، وتحمد الله أن جعلك من أتباع هذا الدين والقرآن.


لُقِّب بإمام القراء، وبالحنجرة الذهبية، وبالكثير من الألقاب، وكان مستمعوه لا يتمالكون أنفسهم وهو يطربهم بأجمل التلاوات، منوعا في المقامات، بحسب طبيعة النص القرآني، أن يعبروا عن إعجابهم بهذا الصوت القادم من السماء، بأعلى الأصوات!!

 
ومضات من حياة الشيخ

- ولد الشيخ (رحمه الله) عام ١٩٢٧م في قرية المراعزة في مركز أرمنت من محافظة قنا في الوجه القبلي من مصر.

- حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات.

- لم يلتحق بالمدارس الدينية، أو الأزهرية، وكانت دراسته في الكتّاب فقط.

- كان جده (عبدالصمد) حافظاً للقرآن، وكذلك أخواه (محمود وعبدالحميد) ووهبه والده للقرآن، وليس لشيء غيره، لذا فقد كانت كل حياته مكرسة لدراسة القرآن وعلومه، وقراءاته المختلفة فقط.

- بدأ يقرأ في المناسبات، وتلبية لحاجات الناس منذ الثانية عشر من عمره، وقيل منذ العاشرة. حيث كان يصطحبه شيخه معه.

- توسَّم فيه شيخه الخير، لما لمسه فيه من جمال صوته، ونبوغه وحفظه.

- كان الناس ينادونه بالشيخ منذ كان عمره عشر سنوات.

- كان من عناية الله وتيسيره للشيخ، في أن يسير في هذا الطريق؛ أنه عندما انتوى الخروج في طلب العلم، لدراسة علم القراءات، وهو في مقتبل عمره، وكان أهله قلقين ويعزُّ عليهم مفارقته؛ حيث كان عليه أن
يترك قريته في الوجه القبلي ليسافر إلى مدينة طنطا في الوجه البحري، ليتلقى ذلك العلم على يد شيخ القراءات (محمد سليم حمادة). وعندما اقتربت ساعة الفراق، وقبلها بيوم واحد فقط، إذا بالشيخ (محمد سليم) يأتي إلى قرية المراعزة (قرية الشيخ عبدالباسط)، ومعه قرار تعيين، للتعليم في تلك القرية، فانفرجت كربة عظيمة من صدور الشيخ ووالديه، فالشيخ محمد سليم الذي كان سيسافر شيخنا إليه، لتلقي علم القراءات، إذا به يأتي إلى قريته، ويعلم في معهدها، فيوفر بذلك عليه عناء السفر، ومرارة فرقة والديه وأهله!!

- كان الشيخ يقطع كل يوم ثلاثة كيلومترات، ليصل إلى الراديو الوحيد في قريته، لينصت لتلاوة الشيخ محمد رفعت (رحمة الله عليه)، وفي طريق عودته، كان يردد ما سمعه من تلاوة.

- كانت بداية شهرته المحلية و العالمية عندما تم تقديمه ليتلو في ختامية مولد السيدة زينب، حيث كان يحضر كبار القراء، وكان الوقت المخصص له ١٠ عشر دقائق، فأجبره الحاضرون أن يستمر قي القراءة لساعة ونصف! وقيل لساعتين... وحملوه بعدها على الأعناق!. وكان حينها في مقتبل العشرينيات من عمره.

- رفض العيش في المغرب، والإقامة فيها، وتلبية كل طلباته، عندما طلب منه ذلك الملك محمد الخامس، (ملك المغرب)، والذي كان من أشد معجبيه. فمصر وأهلها كانت أعز عليه من كل أمر.

- كان الناس في مصر وغيرها، في كل سبت، يتسمرون أمام الراديو لسماع تلاوته الأسبوعية المباشرة من الثامنة إلى الثامنة والنصف مساءً. لذا فقد كان الاستماع لصوته سبباً في ازدياد مبيعات جهاز الراديو، بشكل كبير، وكانت أمه تبخر الراديو دفعاً للعين عنه!!

- وفي أوغندا، أسلم اثنان وتسعون شخصاً، أثناء الاستماع للشيخ وهو يتلو القرآن، أثناء زيارته لبلادهم، وفيها حصلت حادثة مؤثرة للشيخ، عندما انحنت المذيعة المرافقة له، لتقبل قدمه، وتطلب منه أن يساعدها للحج، فغير الشيخ اسمها، بعد إسلامها، وساعدها لتحج في العام التالي.

- وفي جنوب إفريقية، أسلم كذلك اثنان وعشرون شخصاً، بعد استماعهم لتلاوة الشيخ.

 - كذلك أسلم ستة في لوس إنجلس، بعد استماعهم لتلاوته.

- زار أغلب دول العالم، تالياً ومجوداً كتاب الله، وكان يستقبل في أغلبها استقبال الرؤساء والملوك، ومنح أوسمة عديدة.



وفاة الشيخ

في الثلاثين من نوفمبر من العام ١٩٨٨م، وعن عمر ناهز الحادية والستين، غادر الشيخ دنيانا إلى جوار ربه، بعد رحلة مع مرض، أصاب كبده، وأرهق جسده. فبعد رحلة طبية في لندن، لعمل الفحوصات والتداوي من مرض السكر، وقصور الكبد، وبعد رحلة لم تدم غير أسبوع، شعر الشيخ بدنو أجله، فطلب من ابنه المرافق طارق، أن يعود به إلى مصر، حتى لايكون بعيدا عن أهله وأحبابه، إذا ما وافاه الأجل، ولم يمضِ أسبوعان، حتى انتقلت روحه إلى بارئها، وسط حزن وذهول أهله ومحبيه.


رحلتي مع حب الشيخ

مثل الكثيرين غيري، فقد بهرني الشيخ بحلاوة ونداوة صوته المميز في تلاوة كتاب الله، وذلك منذ سنوات الابتدائية، من خلال تلك التلاوات التي كنا ننصت إليها في الغالب من إذاعة وتلفزيون عدن، اللذين كانا يفتتحا ويختتما برامجهما بما تيسر من كتاب الله، فكنت أنتظر متى تأتي الرابعة عصراً، وقت افتتاح التلفزيون، مؤمِّلاً أن يكون الشيخ هو صاحب التلاوة، فأتسمر في تلك الدقائق، أمام الجهاز، منصتاً لصوته الندي، أو أنتظر افتتاح راديو عدن في السادسة صباحاً، وفي الثانية ظهراً، مؤملاً أن تكون تلاوة الافتتاح من نصيب الشيخ...


ومنذ شبابي، حاولت أن أقتني كل ما يقع عليه نظري، من تسجيلات الشيخ، سواء في عدن، أو خارجها. وأتذكر أني طلبت وأنا في سن الثانية عشر، من خالتي التي كانت مغادرة إلى صنعاء في العام ١٩٨٢، أن تحضر لي شيئاً من التسجيلات الجميلة للشيخ وخاصة تلك التي يتلو فيها في المحافل، فقد كانت تجذبني كثيراً قراءات المحافل لما تتميز به من، تنوع في المقامات، وهو الفن الذي أبدع فيه الشيخ.


وفي العام ١٩٨٦م وفي دمشق حاولت أن أبحث عن أجمل التلاوات للشيخ، فوجدت شريطاً من إحدى تلك التلاوات والتي تلاها (رحمه الله)، أثناء زيارته لدمشق، في الجامع الأموي، وعندما غادرت إلى موسكو في نفس الشهر، كنت أستمع يوميا لذلك الشريط، وفي زيارتي لأحد الأسواق هناك، طلب مني أحد المسلمين السوفيات، إن كان لدي ختمة أو أشرطة قرآن لأبيعه إياها، فأهديته ذلك الشريط، والختمة التي كانت معي.
ولقد أحزنني كثيراً أنني لم أجد نسخة أخرى من ذلك الشريط، عندما عدت إلى دمشق، عند الشخص الذي اشتريتها منه، فعدت إلى عدن حزيناً.


وفي العام ١٩٨٧م وفي مومبي، والتي كانت تُدعَى حينها ب (بومبي)، أهداني أحد قراء القرآن هناك تسجيلاً خاصاً له، وشريطاً آخر بتلاوة جميلة ومميزة للشيخ عبدالباسط.


أما في المملكة، وفي العام ١٩٨٨م والتي كنت فيها أثناء وفاة الشيخ، فقد حرصت على اقتناء كل ما تقع عليه يدي من تسجيلات للشيخ رحمه الله. وهناك قرأت خبر وفاة الشيخ ( رحمة الله عليه)، من جريدة (المسلمون) التي تصدر هناك، فحزنت كثيراً، لسماعي مثل هذا الخبر؛ فقد كانت نفسي تتوق للسفر إلى مصر، وأنا شاب، للقاء به والاستماع إليه مباشرة وهو يتلو كتاب الله.


وفي عصر النت واليوتيوب، فقد صار الكل يجد ضالته، في من كل ما ينزل من  تسجيلات للشيخ  مرئية كانت أم سمعية.


كانت رؤيا لي قبل فترة، حلمت فيها أن الشيخ يقرأ وأنا بجانبه، فدعوت الله أن يكون هذا الأمر في جنات النعيم، وتحفزت لأن أكتب عنه في ذكرى وفاته الثلاثين، في يومنا هذا الجمعة ٣٠ نوفمبر ٢٠١٨.


رحم الله الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد، وجزاه كل خير، وجعل كل تلاواته (والتي ينتفع بها إلى يوم الدين)، في ميزان حسناته.



د. مجيد جميل ثابت
عدن
٣٠ نوفمبر ٢٠١٨م

الأحد، 25 مارس 2018

من مروءات البهرة  في عدن (قديماً وحديثاً)




بقلم د/ مجيد جميل ثابت


٢٥مارس ٢٠١٨



في أثناء حرب صيف ١٩٩٤م كان في الهند عدد غير قليل ممن تقطعت بهم السبل من أبناء عدن، وكانوا يعدون بالمئات، ولقد روى لي أحدهم أنه وعندما لم يستطيعوا العودة إلى عدن، فقد ذهبوا إلى قنصلية اليمن في بومبي (ممبي) طالبين منها المعونة والحل، فكان أن نظر إليهم مسؤول القنصلية بسخرية، وقال لهم: "إنكم كثيرون تصلحوالأن تصلّوا جماعة، فاذهبوا وعينوا إماماً عليكم لهذا الأمر!!“ ولم يقدم لهم أي حل أو عون.


وصل حينها إلى مسامع سلطان البهرة في الهند، مايعانيه أبناء عدن المنكوبون في بومبي، من تقطع السبل، فما كان منه إلا أن أمر ( وعلى نفقته) بإسكانهم جميعاً في فندق لائق كانوا يحصلون منه على وجبة الإفطار، وتم ترتيب مطعم إيراني ليقوم بتوفير وجبة  الغذاء لهم جميعاً، خلال كل فترة مكوثهم في الهند إلى أن انتهت الحرب وتمكنوا جميعاً من مغادرة بومبي..


حدثت تلك المكرمة من سلطان البهرة دون منٍّ أو أذى، ولم تذكرها صحافة التلميع، فتلك الأخلاق هي امتداد لأخلاق البهرة وماعُرِف عنهم في عدن...

                     **********
بعد ذلك التاريخ بحوالي عشرين عاماً تجددت المكرمات البهرية لعدن وأهلها؛ ففي هذه المرة وخلال زيارة سلطان البهرة ( مفضل سيف الدين) لعدن، والتي كانت في شهر مارس ٢٠١٤م. كان العرض السلطاني لمحافظ عدن حينها، بأن يتكفل سلطان البهرة ببناء مستشفى ضخم في كريتر يضم كل المساحة التي كان قائماً عليها مستشفى الشعب، على أن يكون هذا المستشفى هدية من السلطان. وتم كذلك تدارس غيرها من الأمور الاستثمارية. وبالطبع حدثت الأحداث المتسارعة بعدها، وإلى يومنا هذا، ولم نجد من يتابع هذا الأمر مع السلطان، فالكل مشغول بأمور الجيب وماسيأتيه من  الغيب.


                    **********
ولمن يعشق قراءة تاريخ عدن والتعرف على نبل وشهامة من سكنوا فيها؛ أهدي القصة التاريخية التالية التي حدثت في عهد بني زريع حكام عدن وأجداد البهرة. وهي قد وردت في كتاب المؤرخ العدني الشهير: حمزة علي إبراهيم لقمان. (قصص من تاريخ اليمن)، ولقد حرصتُ على أن أضبطها بالشكل (التشكيل) لجمالها، ولأنها تصلح أن تُدرَّس لطلابِنا لتعريفهم بثرات عدن وتاريخها.

والداعي المعظم المذكور في القصة  هو من حكام بني زريع الذين كانوا يحكمون عدن في زمن الدولة الصليحية، ثم انفردوا بحكمها وبحكم اليمن بعد زوال دولة الصليحيين.
والصليحيون، كما هو معروف ومنهم ملكة اليمن المشهورة (أروى)، ومن بعدهم بنو زريع هم من الشيعة الإسماعيلية الذين يُنسب إليهم البهرة، وهم أجداد البهرة، وقد حكموا اليمن وعدن لأكثر من مائة عام.


إليكم القصة:




في عامِ ١١٤٤م، وفي عهد بني زريعٍ، رستْ سفينةٌ في ميناءِ صيرةَ، ونزلَ ربَّانُها عندَ منتصفِ الليلِ يطوفُ الشوارعَ مفكراً ممعناً النظر فيما حولَه، حتى رأى أمامَهُ داراً جميلةَ المنظرِ، تنيرُها الشموعُ، وتنبعثُ من نوافذِها الروائحُ العطريةُ.

نظرَ الربانُ إلى البابِ الواسعِ المغلقِ، ووقفَ عندَهُ متردداً، وتلفتَ يميناً ويساراً ثم تقدمَ ودقَّ البابَ. بعد لحظاتٍ فُتِحت كُوةٌ في البابِ وظهرَ وجهُ صبيةٍ سمراءَ تفركُ عينيها لتبعدَ عنهما آثارَ النومِ، وتفحَّصَتْ وجهَ القادمِ وملابسَهُ بانتباهٍ وحذرٍ، وقالت: "من تريدُ أيُّها السيدُ وما اسمُكَ وماعملُكَ؟!“

أجابَها: " أنا ربانُ سفينةٍ جئتُ أطلبُ ربَّ هذهِ الدارِ“.

قالتْ الصبيةُ: " هلا انتظرتَ قليلاً حتى أرى إن كانَ متيقظاً“
وصعَدَتْ إلى جناحِ سيدِها فرأتهُ يطالعُ بعضَ الأوراقِ. ولما أخبرَتهُ بالقادمِ أمرَ بإدخالِهِ. وحينَ ظهرَ الربانُ أمامَ بابِ الغرفةِ، وقفَ لهُ ربُ الدارِ وحيا كلٌ منهما الآخرَ. وبعدَ أنْ استقرَّ بالربانِ المقامُ قالَ متردداً: " سيدي أنتَ لا تعرفني وأنا لا أعرفُكَ، فأنا غريبٌ عنْ هذهِ الديارِ، لم أصِلْ إليها إلّا قبيلَ منتصفِ الليلِ على سفينتي“.


قالَ ربُّ الدارِ: " أهلاً بكَ وسهلاً. إنَّ عدنَ تُكرِمُ الضيفَ، وتُحسِنُ إلى الغريبِ.“


قالَ الربَّانُ: " شكراً لك ياسيدي. لقدْ قضيتُ وقتاً أطوفُ الشوارعَ باحثاً عمَّن يمكنني الوثوقَ فيهِ“.


قالَ ربُّ الدارِ: " وهلْ وجدتَهُ؟“.


أجابَ الربانُ: " نعمْ ياسيدي، إنَّ منظرَكم يوحي إلى النفسِ بالاطمئنانِ“.


قالَ ربُّ الدارِ: " يمكنكَ أنْ تثقَ بي أيُّها الرُّبَّانُ“.


قالَ الربانُ بخجلٍ: " إنّهُ سِرٌّ خطيرٌ، قد يكلفني حياتي“.


قالَ ربُّ الدارِ: " إنَّ حياتَكَ في مأمنٍ عندي.. وإذا كانَ سرُّكَ لا يتعلّقُ بقضيةِ قتلٍ فإنني أعدُكَ بشرفي بكتمانهِ“.


قالَ الربانُ: " ياسيدي، لقد قدمتُ الليلةَ على سفينتي من الغربِ تحملُ أموالاً ثمينةً لا أعرفُ كيفَ أخفيها وأينَ أخفيها“.


قالَ ربُّ الدارِ: " وممن تخافُ عليها؟“.


قالَ الربانُ: " من ملكِ هذهِ الديارِ الداعي المعظَّمِ ابنِ زريعٍ ومِنْ نوّابهِ!“.


نظرَ ربُّ الدارِ طويلاً ثُمّ قالَ: " هلْ ترغبُ في إخفائِها عندي؟“.


أجابَ الربانُ: " نعمْ ياسيدي لو قبلتَ، وأنا مستعدٌ أنْ أسلَّمَ عمولةً خاصةً“.


قالَ ربُّ الدارِ مبتسماً: " لا تخَفْ من المعتدينَ. احملْ كلَّ ما تريدُ إخفاءَهُ إلى المنزلِ الرابعِ على يمينِ هذا الشارعِ، وسأرسلُ بمن يكونُ في استقبالِكَ هناكَ“.


غادرَ الربانُ الدارَ مطمئناً عائداً إلى سفينتِهِ، وطلبَ من التجارِ الذينَ معَهُ أنْ يحملوا كلَّ مايريدون إخفاءَهُ إلى المنزلِ الذي أشارَ إليهِ ربُّ الدارِ.

ثم نامَ الربانُ هادىءَ البالِ.


في صباحِ اليومِ التالي ذهبَ الربانُ إلى مجلسِ الداعي المعظمِ كعادةِ ربابنةِ السفنِ في تلكَ الأيامِ للتسليمِ عليهِ. ولمّا نظرَ إلى الداعي انهمرَ العرَقُ منهُ غزيراً وارتعدَ جسمُهُ. فقد كان الداعيُ هو نفسَ ربَّ الدارِ.


انشغلَ بالُ الربانِ وتوقعَ أشدَّ ألوانِ العذابِ، ومضَتْ لحظاتٌ كأنها ساعاتٌ طويلةٌ بطيئةٌ، ثمَّ سمِعَ صوتَ الداعي يناديهِ، فلمَّا وقفَ أمامَهُ قالَ لهُ بصوتٍ لا يسمعُهُ غيرُهُ: " إني أنا الداعيُ وربُ الدارِ التي زرتَها البارحةَ، وقد وعدتُكَ بشرفي أن لا أسبِّبَ لكَ مكروهاً، وأنا عندَ وعدي. وكنتُ قد أدركتُ أنَّكَ تتهربُ من دفعِ الرسومِ الجمركيةِ والعشورِ على الأموالِ الثمينةِ التي تحملها سفينتُكَ.
واعلم الآنَ أنني وهبتُكَ المنزلَ الذي خزنتَ البضاعةَ فيهِ وألف دينارٍ مصاريفَ إقامتِكَ في عدنَ، لكنني أحذِّرُكَ مِنْ أنْ تفعلَها ثانيةً“.


ولمَّا اطمأنَ الربانُ قالَ: " ولِمَا فعلْتَ كلَّ هذا ياسيدي الداعيُ؟“


أجابَهُ الداعيُ: " لأنّكَ نزلتَ ضيفاً عليّ في داري، وأعطيتُكَ وعدَ الشرفِ، والضيفُ والشرفُ غاليانِ“


وبعدَ أنْ غادرَ الربانُ المجلسَ أمرَ الداعيُ ببناءِ سورٍ على الشاطىء ليحُوْلَ دونَ تهريبِ الأموالِ من السفنِ.
                          **********

انتهتِ القصةُ ولمْ تنتهِ معاناةُ البهرة في عدن، فمنذ أن كتبت بحثي التاريخي عنهم المسمى: (البهرة  والهجرة الثالثة)(1)، قبل أكثر من عامين، فهم مايزالون لا يشعرون بالأمان في عدن؛ فأعمال النهب ماتزال تطاردهم، والمختطفون منهم مايزالون في علم الغيب، والكثيرون منهم يعيشون خارج عدن، سواء كان في صنعاء أو الهند أو غيرها، حيث يشعرون بالأمن ووجود دولة تحميهم.



1)- http://dr-mageedgameel.blogspot.com/2018/03/blog-post_6.html?m=1

السبت، 24 مارس 2018

               البهرة والهجرة الثالثة




١٧مارس٢٠١٦



د/ مجيد جميل ثابت




       يعاني أبناء طائفة البهرة في عدن كغيرهم من السكان من حالة الفلتان الأمني المستفحل في كافة مديريات المحافظة.


      ازدادت هذه المعاناة مؤخراً عندما قام البعض من الجماعات والعصابات المارقة بعملية اختطافات ممنهجة، للكثير من أفراد هذه الطائفة، بغرض الابتزاز المالي، حيث وجد هؤلاء في البهرة دجاجة تبيض ذهباً، فأمعنوا في خطف الأبرياء منهم لمجرد أن الواحد منهم يمتلك محلاً تجارياً!! متناسين ومتغافلين حقيقة الأوضاع الاقتصادية البائسة التي مر ويمر بها تجار عدن ومنهم بالتأكيد البهرة.


       لقد دفعت عمليات الاختطاف هذه- وكما أخبرني أحدهم- أن يقوم أبناء البهرة ببيع سياراتهم وذهب نسائهم لدفع الفدية عن مختطَفيهم والتي تكون عادةبالملايين!! ثم تسببت مؤخراً في هجرة الغالبية من أبناء هذه الطائفة من عدن إلى أماكن أخرى داخل الوطن وخارجه يأمنون بها على أنفسهم!!


     إنني هنا وفي هذه العجالة التاريخية أناشد قيادة محافظة عدن و القيادة الأمنيةفيها، توفير الحماية اللازمة لأسر البهرة وغيرهم  من المستضعفين والمسالمين من سكان عدن، وبما يكفل عودتهم الآمنة إليها؛ حيث إن هؤلاء هم جزء من نسيج المجتمع العدني منذ مئات السنين، ولم نعرف عنهم سوى الأمانة وحسن المعاملة في التجارة، والعشرة الطيبة...ولم نرَ منهم ما يسؤنا طوال سنين مكوثهم في عدن ومجاورتهم لنا.


        كما أنني أذكّر أولئك بأن البهرة لم يؤذوا أحداً، ولم تكن لهم أية علاقة بالحوثة خلال فترة الحرب في كريتر أو غيرها، فهم دوماً بعيدون كل البعد عن السياسة وكذا عن الدعوة إلى مذهبهم بين الطوائف الأخرى.


وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، حيث نهانا أن نلحق الأدى بالكفار والمشركين الذين لم يقاتلونا أو يخرجونا، وأمرنا أن نبرهم ونقسط إليهم، فإن البهرة أولى بأن نبرهم ونقسط إليهم بل أن ندافع عنهم.



       لذلك عزيزي العدني والجنوبي أجد أنه ومن باب الأمانة أن أضع أمامك نبذة تاريخية مختصرة عن البهرة الإسماعيليين، في عدن وفي اليمن، وعن جذورهم، حتى تدرك من هم هؤلاء وأي تاريخ يمتلك أجدادهم في اليمن.
                   -------------



صفحات من تاريخ الإسماعيليين و
البهرة في عدن واليمن


           
     نبذة عن الإسماعيليين والبهرة:

       البهرة هم إحدى فرق الشيعة الإسماعيلية، أو (الشيعة السبعية)، والذين يؤمنون بسبعة أئمة، وهم خلاف الشيعة الإثني عشرية( الإمامية) التي تدين بالولاء لإيران.


ينقسم الإسماعيليون إلى سبع فرق رئيسية وهي:

١) الإسماعيلية القرامطة.
 ٢) الإسماعيلية الفاطمية.
٣) الإسماعيلية الحشاشون.
٤) إسماعيلية الشام.
٥) الإسماعيلية البهرة.
٦) الإسماعيلية الآغاخانية.
٧) الإسماعيلية الواقفة.

كما ينقسم البهرة أيضاً إلى فرقتين هما:
١) البهرة الداوودية: وهم في الهند وباكستان، منذ القرن العاشر الهجري، وينسبون إلى الداعي قطب شاه داوود.

٢) البهرة السليمانية: وهؤلاء مركزهم في اليمن، وينسبون إلى الداعي سليمان بن حسن.


      الإسماعيليون في اليمن:

      ظهر المذهب الإسماعيلي في اليمن - والذي تعد البهرة إحدى فرقه- قبل الزيدية بسنوات قليلة، في العام ٢٦٧هجرية، وكان ظهوره مقرونا بكثير من الحروب.

       لقد حكم الإسماعيليون اليمن فترات طويلة امتدت لأكثر من قرن من الزمان(١٠٦٢-١١٧٣) من خلال دولتين سادتا حينها وهما: الدولة الصليحية والدولة الزريعية.


       تعرض الإسماعيليون في تاريخهم لاضطهاد وتعسف أئمة المذهب الزيدي، الذين سفكوا دماءهم كغيرهم من اليمنيين وتسببوا بهجرتهم من اليمن مرتين إلى الهند التي مكثوا فيها السنين الطوال، واختلطوا هناك وتزاوجوا بالهنود، وهذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن غالبية  البهرة في عدن واليمن هم من أصول عربية يمنية، هاجروا مكرهين تحت ضغط الظروف، وتزاوجوا في الهند، ثم عادوا إلى موطنهم الأصلي( اليمن).



                هجرات البهرة



الهجرة الأولى:

       في العام ١١٧٣ احتل بنو أيوب اليمن، بعدما قضوا على الفاطميين في مصر، فانقرضت بذلك دولة الإسماعيليين في اليمن، واستعرت حروب كثيرة بين الإسماعيليين والمذاهب الأخرى وخاصة المذهب الزيدي مما أدى إلى هجرة كثير من الإسماعيليين اليمنيين إلى الهند، وكانت هذه هي هجرتهم الأولى.(1)



الهجرة الثانية:

       في عهد الدولة الزيدية القاسمية وتحديداً أثناء حكم المنصور الحسين بن القاسم، سالت دماء اليمنيين غزيرة وذلك في حوالي العام ١٧١٢م، فتشتت الألوف وفقدوا دورهم وأرزاقهم واضطر عدد من اليمنيين وخاصة من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي إلى الهجرة إلى الهند وغيرها.(2)


الهجرة الثالثة:

        إنها الهجرة التي تمثل وصمة عار في حق عدن في العصر الحديث، وهي التي تحدث أيامنا هذه، والتي جعلت البهرة يهجرون عدن مكرهين، للنجاة بأنفسهم، من أولئك اللصوص وقطاع الطرق الذين تجردوا من الإنسانية فقاموا بخطفهم وتهديدهم ومحاولة قتلهم بدوافع إجرامية لا تمتُّ بصلة إلى أخلاق سكان عدن المسالمين.




مناقب وأفضال الإسماعيليين في عدن


           النشوح ( القرابين):


       كان لأجداد البهرة الفضل في القضاء على واحدة من أسوأ الأعمال الشركية الوثنية في عدن؛ ألا وهي ظاهرة النشوح، أي تقديم القرابين من قبل الأهالي في جزيرة صيرة؛ حيث كان أهالي عدن في القرون الماضية يعتقدون بوجود الجن والعفاريت في تلك الجزيرة.
وحينما كان دخول السفن إلى ميناء صيرة صعباً بسبب الرياح الموسمية، كان الأهالي يأخذون سبعة ثيران إلى الجبل وقت غروب الشمس. وبعد منتصف الليل يذهبون ويختارون واحدا يربطونه هناك، ويعودون بستة ثيران، وقبيل انبثاق الفجر يذبحون الثور المربوط ويقذفون بلحمه إلى البحر.

كان الأهالي يعتقدون أن السفن تستطيع بعد ذلك أن تدخل الميناء بسلام، واستمرت تلك العادة حتى أبطلها بنو زريع، ملوك عدن الإسماعيليون، الذين اعتبروا ذلك العمل من أفعال الوثنيين التي لا يقرها الإسلام.(3)



                  تنظيم الضرائب:

عندما عين الداعي المعظم المكرم أحمد بن علي بن محمد الصلاحي( زوج الملكة أروى بنت أحمد) كلا من الأخوين العباس والمسعود ابني المكرم الجشمي اليامي الهمداني، نائبين له في عدن. قاما بالاستعانة بشخص يهودي يدعى: خلج المهوندي، لينظم لهما الضرائب، التي كانا يحصلان عليها من باب عدن وباب البحر.(4)


       إن لكل مواطن في دولته حرمة، و كما للمسلمين في أوطانهم حرمة كذلك  لغيرهم من أهل الكتاب والمذاهب الأخرى حرمة، ولا يجوز بحال الاعتداء عليهم أو إصابتهم بالضرر بدعوى أنهم مخالفين لنا في المذهب أو غيره...


       إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وهو محرم، وإن الله يستجيب لدعوة المظلوم وإن كان كافراً...
لذا فإن السكوت عن الظلم الذي يلحق أبناء هذه الطائفة المسالمة في عدن ليس من الدين أو من المروءة، وإن عجزت الجهات المسؤولة أن تضطلع بدورها لحماية هؤلاء وكشف الجهات التي ترتكب مثل تلك الجرائم ضدهم ومعاقبتهم وردعهم بشكل سريع، فعلينا نحن أبناء عدن أن نؤازر إخواننا البهرة ونحميهم فهم منّا أولاً وأخيراً.



الهوامش:
1- حمزة لقمان: تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية ص٥٦ .

2- حمزة لقمان: تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية ص١٣٣.

3- حمزة لقمان: تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية ص٢٤٩.

4-  حمزة لقمان: تاريخ عدن وجنوب الجزيرة العربية ٢٦٤.
      صباح الحصار والبلاليع 





٣٠ مارس ٢٠١٦م

بقلم: د/ مجيد جميل ثابت


       في كلِ يومٍ دأَبْنا أن نبتدئ أحبابنا بعبارات التفاؤل المختلفة: صباح الفل، صباح الورد، صباح المسك، صباح جميل....إلخ من تلك الأمنيات الجميلة التي تتوق أنفُسُنا لأن يكون صباحنا ويومنا كذلك.


أخرج بسيارتي من بيتي الواقع في حينا المحاصر( القطيع) صباحاً، باحثاً عن شيء من تلك الروائح العبقة التي تمنيتها وتمناها لي الآخرون، فيقابلني سيل من طفح للمجاري ينساب على طول شارع العيدروس، ليجد مجرىً له أمام المجمع الصحي للقطيع، فيغمر كل الشارع أمامه!! فلا يستطيع من يبتغي الشفاء في المجمع إلا أن يدوس بقدميه هذه المجاري فيدخل بقاذوراتها إلى داخله!!.


بعد تحرير كريتر لم يعد هنالك من مجال لي في أن أتفادى المرور في هذا الطريق؛ فالمنفذان الآخران واللذان مازالا مفتوحين من منافذ القطيع يمر من أمامهما كذلك سيل المجاري!!


لحي القطيع سبعة منافذ للدخول والخروج منه، أضحت أربعة منها مغلقة؛ واحد هو ذلك الذي يمر بجانب الهجرة والجوازات، وآخران بجانبي البنك المركزي، ورابع هو مدخل عمارة الطيب التي قُصفت أتناء هجوم الحوثة على كريتر.


تسبب هذا الإغلاق والحصار للقطيع بالضرر العظيم للسكان ولطالبي الرزق، وبازدحام شديد أمام البنك المركزي صباحا نتيجة توقف سيارات زبائن البنك على قارعة طريق العيدروس.


في مدينتي كريتر ( عدن) يعاني  كثير من السكان أيضاً من حصارات مشابهة؛ فهاهم سكان البيوت المقابلة لملعب الحبيشي والمحلات التجارية هناك لا يستطيعون الولوج بالسيارات، من  الطريق الذي أمامهم، لأسباب لا تبدو وراءها أي منفعة أمنية ناجعة، سوى السير قُدُما في مسلسل التضييق و التنفير لسكان ومرتادي كريتر، ومثلهم أيضاً يعاني سكان الرزميت وطلاب مدرستي باكثير والبيحاني من إغلاق للشارع من بدايته!!!


لا يقل سوءاً حظ أولئك السكان والتجار الذين يقطنون في منطقتي صيرة وحقات، فقد أضحت الأخيرة منطقة غير مرغوب السكن فيها، لماذا؟! لأن حظ هؤلاء السكان أن الأقدار أتت لهم برئيس البلد ونائبه ومن معهما من قوات الإمارات ليسكنوا في معاشيق!!
لقد صار لزاما على هؤلاء الساكنين أن يمروا بصمت من بين تلك المتارس التي لم تعرف عدن لها مثيل ( إلا في الفترة الأخيرة، فترة الرعب من القاعدة وداعش) وصار عليهم أن تُفتَّش أغراضهم وينظر إليهم بعين الريبة في كل دخول وخروج لهم!!


أخبرني أحد سكان حقات عن سوء المعاملة هناك، وكيف أن المنطقة المؤدية إليها من أمام نادي التلال ومن مدخل صيرة أصبحت منطقة رعب، وكيف أن الإماراتيين والشرعية، قاموا بإغلاقها بعد أن تسببوا بخراب البيوت والمحلات التجارية هناك، نتيجة التفجير الأخير، بوضعهم نقطة عسكرية أمام منازل الناس ومحلاتهم التجارية، وعدم احترام حرمة هذه الأماكن، وكيف أن هؤلاء تنصلوا من مسؤولية التعويض تجاه أولئك السكان والتجار،  وتجاه ضحايا التفجير الذي حدث بسبب هذه النقطة، ووصف لي ماحدث من إغلاق للمحلات التجارية هناك وما تم من تشريد للأسر من مساكنهم المدمرة، وحرمان أصحاب المحلات التجارية من مزاولة أنشطتهم وقطع أرزاقهم بإغلاق المنطقة، وجعلها منطقة أشباح.


إنني أوجه دعوة هنا بلسان أولئك أجمعين، إلى الحكومة وإلى الإماراتيين: إن مثل هذه الأمور لا تجوز ولا يرضاها عقل أودين، فالتسبب بإضرار الآخرين والإفلات من تعويضهم، ليس من خُلُق  أصحاب المروءات، وإن هؤلاء المظلومين إن صمتوا ولم يجدوا باباً للإنصاف والتعويض فسيتوجهون بدعائهم إلى من اسمه: (العدل واسمه الحكم) ليقتص لهم ممن تسبب في ظلمهم من شرعية ومن إماراتيين، وإن دعوة المظلوم لابد أن تصيب الظالمين ولو بعد حين.


كما أوجه دعوة لمدير المديرية الأستاذ خالد سيدو أن يتدارس مع المعنيين الجدوى الحقيقية من إغلاق أربعة منافذ لحي القطيع، و إغلاق غيره من الشوارع والأحياء في كريتر، وإنني على ثقة أن كثيرا من ذلك الإغلاق قد تم بصورة لا تمت إلى الحس الأمني بصلة وإنما هي مزاجية المتسلطين، ورعب المرعوبين.