الجمعة، 30 نوفمبر 2018

الصوت القادم من السماء (عبدالباسط عبدالصمد) في ذكرى رحيله الثلاثين (٣٠ نوفمبر ٢٠١٨)





لكلٍّ منّا ذكرياته، وأشجانه، خلال مراحل حياته المختلفة، ولعل أجمل الذكريات هي تلك التي ترتبط بالاستماع لفضيلة الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد ( رحمه الله)، فمن منا لم يشنف آذانه ذلك الصوت الشجي، الذي تلى كتاب الله، فأبدع فيه أيما إبداع، وتميز وتفرد في فن التلاوة، ولم يكن له مثيل في هذا المجال.


تستمع إليه فتشعر وكأنك تحلق في الجنة، فتتمنى أن تكون وإياه من أصحاب تلك الجنة!! كيف لا؟! وهو ذاته كان يغمره ذلك الشعور عندما يترنم بتلاوة كتاب الله؛ فعندما سئل الشيخ في إحدى اللقاءات معه عن متى شعر  وهو يتلو، وكأنه يحلق في الجنة؟ فأجاب: "إنه يتذكر إحدى تلك المرات، وهو في الروضة الشريفة، يتلو سورة المزمل، فغمره ذلك الشعور، وأحس وهو يقرأ أنه في الجنة، وليس في هذه الدنيا الفانية.“


تنصت إليه، فتدمع العين من الخشوع، ويحلق القلب في عالم روحاني آخر؛ فإن كنت حزيناً؛ ذهب عنك ذلك الحزن، وإن كنت قلقاً يغمرك الاطمئنان، ويزداد إيمانك، وتحمد الله أن جعلك من أتباع هذا الدين والقرآن.


لُقِّب بإمام القراء، وبالحنجرة الذهبية، وبالكثير من الألقاب، وكان مستمعوه لا يتمالكون أنفسهم وهو يطربهم بأجمل التلاوات، منوعا في المقامات، بحسب طبيعة النص القرآني، أن يعبروا عن إعجابهم بهذا الصوت القادم من السماء، بأعلى الأصوات!!

 
ومضات من حياة الشيخ

- ولد الشيخ (رحمه الله) عام ١٩٢٧م في قرية المراعزة في مركز أرمنت من محافظة قنا في الوجه القبلي من مصر.

- حفظ القرآن الكريم وعمره عشر سنوات.

- لم يلتحق بالمدارس الدينية، أو الأزهرية، وكانت دراسته في الكتّاب فقط.

- كان جده (عبدالصمد) حافظاً للقرآن، وكذلك أخواه (محمود وعبدالحميد) ووهبه والده للقرآن، وليس لشيء غيره، لذا فقد كانت كل حياته مكرسة لدراسة القرآن وعلومه، وقراءاته المختلفة فقط.

- بدأ يقرأ في المناسبات، وتلبية لحاجات الناس منذ الثانية عشر من عمره، وقيل منذ العاشرة. حيث كان يصطحبه شيخه معه.

- توسَّم فيه شيخه الخير، لما لمسه فيه من جمال صوته، ونبوغه وحفظه.

- كان الناس ينادونه بالشيخ منذ كان عمره عشر سنوات.

- كان من عناية الله وتيسيره للشيخ، في أن يسير في هذا الطريق؛ أنه عندما انتوى الخروج في طلب العلم، لدراسة علم القراءات، وهو في مقتبل عمره، وكان أهله قلقين ويعزُّ عليهم مفارقته؛ حيث كان عليه أن
يترك قريته في الوجه القبلي ليسافر إلى مدينة طنطا في الوجه البحري، ليتلقى ذلك العلم على يد شيخ القراءات (محمد سليم حمادة). وعندما اقتربت ساعة الفراق، وقبلها بيوم واحد فقط، إذا بالشيخ (محمد سليم) يأتي إلى قرية المراعزة (قرية الشيخ عبدالباسط)، ومعه قرار تعيين، للتعليم في تلك القرية، فانفرجت كربة عظيمة من صدور الشيخ ووالديه، فالشيخ محمد سليم الذي كان سيسافر شيخنا إليه، لتلقي علم القراءات، إذا به يأتي إلى قريته، ويعلم في معهدها، فيوفر بذلك عليه عناء السفر، ومرارة فرقة والديه وأهله!!

- كان الشيخ يقطع كل يوم ثلاثة كيلومترات، ليصل إلى الراديو الوحيد في قريته، لينصت لتلاوة الشيخ محمد رفعت (رحمة الله عليه)، وفي طريق عودته، كان يردد ما سمعه من تلاوة.

- كانت بداية شهرته المحلية و العالمية عندما تم تقديمه ليتلو في ختامية مولد السيدة زينب، حيث كان يحضر كبار القراء، وكان الوقت المخصص له ١٠ عشر دقائق، فأجبره الحاضرون أن يستمر قي القراءة لساعة ونصف! وقيل لساعتين... وحملوه بعدها على الأعناق!. وكان حينها في مقتبل العشرينيات من عمره.

- رفض العيش في المغرب، والإقامة فيها، وتلبية كل طلباته، عندما طلب منه ذلك الملك محمد الخامس، (ملك المغرب)، والذي كان من أشد معجبيه. فمصر وأهلها كانت أعز عليه من كل أمر.

- كان الناس في مصر وغيرها، في كل سبت، يتسمرون أمام الراديو لسماع تلاوته الأسبوعية المباشرة من الثامنة إلى الثامنة والنصف مساءً. لذا فقد كان الاستماع لصوته سبباً في ازدياد مبيعات جهاز الراديو، بشكل كبير، وكانت أمه تبخر الراديو دفعاً للعين عنه!!

- وفي أوغندا، أسلم اثنان وتسعون شخصاً، أثناء الاستماع للشيخ وهو يتلو القرآن، أثناء زيارته لبلادهم، وفيها حصلت حادثة مؤثرة للشيخ، عندما انحنت المذيعة المرافقة له، لتقبل قدمه، وتطلب منه أن يساعدها للحج، فغير الشيخ اسمها، بعد إسلامها، وساعدها لتحج في العام التالي.

- وفي جنوب إفريقية، أسلم كذلك اثنان وعشرون شخصاً، بعد استماعهم لتلاوة الشيخ.

 - كذلك أسلم ستة في لوس إنجلس، بعد استماعهم لتلاوته.

- زار أغلب دول العالم، تالياً ومجوداً كتاب الله، وكان يستقبل في أغلبها استقبال الرؤساء والملوك، ومنح أوسمة عديدة.



وفاة الشيخ

في الثلاثين من نوفمبر من العام ١٩٨٨م، وعن عمر ناهز الحادية والستين، غادر الشيخ دنيانا إلى جوار ربه، بعد رحلة مع مرض، أصاب كبده، وأرهق جسده. فبعد رحلة طبية في لندن، لعمل الفحوصات والتداوي من مرض السكر، وقصور الكبد، وبعد رحلة لم تدم غير أسبوع، شعر الشيخ بدنو أجله، فطلب من ابنه المرافق طارق، أن يعود به إلى مصر، حتى لايكون بعيدا عن أهله وأحبابه، إذا ما وافاه الأجل، ولم يمضِ أسبوعان، حتى انتقلت روحه إلى بارئها، وسط حزن وذهول أهله ومحبيه.


رحلتي مع حب الشيخ

مثل الكثيرين غيري، فقد بهرني الشيخ بحلاوة ونداوة صوته المميز في تلاوة كتاب الله، وذلك منذ سنوات الابتدائية، من خلال تلك التلاوات التي كنا ننصت إليها في الغالب من إذاعة وتلفزيون عدن، اللذين كانا يفتتحا ويختتما برامجهما بما تيسر من كتاب الله، فكنت أنتظر متى تأتي الرابعة عصراً، وقت افتتاح التلفزيون، مؤمِّلاً أن يكون الشيخ هو صاحب التلاوة، فأتسمر في تلك الدقائق، أمام الجهاز، منصتاً لصوته الندي، أو أنتظر افتتاح راديو عدن في السادسة صباحاً، وفي الثانية ظهراً، مؤملاً أن تكون تلاوة الافتتاح من نصيب الشيخ...


ومنذ شبابي، حاولت أن أقتني كل ما يقع عليه نظري، من تسجيلات الشيخ، سواء في عدن، أو خارجها. وأتذكر أني طلبت وأنا في سن الثانية عشر، من خالتي التي كانت مغادرة إلى صنعاء في العام ١٩٨٢، أن تحضر لي شيئاً من التسجيلات الجميلة للشيخ وخاصة تلك التي يتلو فيها في المحافل، فقد كانت تجذبني كثيراً قراءات المحافل لما تتميز به من، تنوع في المقامات، وهو الفن الذي أبدع فيه الشيخ.


وفي العام ١٩٨٦م وفي دمشق حاولت أن أبحث عن أجمل التلاوات للشيخ، فوجدت شريطاً من إحدى تلك التلاوات والتي تلاها (رحمه الله)، أثناء زيارته لدمشق، في الجامع الأموي، وعندما غادرت إلى موسكو في نفس الشهر، كنت أستمع يوميا لذلك الشريط، وفي زيارتي لأحد الأسواق هناك، طلب مني أحد المسلمين السوفيات، إن كان لدي ختمة أو أشرطة قرآن لأبيعه إياها، فأهديته ذلك الشريط، والختمة التي كانت معي.
ولقد أحزنني كثيراً أنني لم أجد نسخة أخرى من ذلك الشريط، عندما عدت إلى دمشق، عند الشخص الذي اشتريتها منه، فعدت إلى عدن حزيناً.


وفي العام ١٩٨٧م وفي مومبي، والتي كانت تُدعَى حينها ب (بومبي)، أهداني أحد قراء القرآن هناك تسجيلاً خاصاً له، وشريطاً آخر بتلاوة جميلة ومميزة للشيخ عبدالباسط.


أما في المملكة، وفي العام ١٩٨٨م والتي كنت فيها أثناء وفاة الشيخ، فقد حرصت على اقتناء كل ما تقع عليه يدي من تسجيلات للشيخ رحمه الله. وهناك قرأت خبر وفاة الشيخ ( رحمة الله عليه)، من جريدة (المسلمون) التي تصدر هناك، فحزنت كثيراً، لسماعي مثل هذا الخبر؛ فقد كانت نفسي تتوق للسفر إلى مصر، وأنا شاب، للقاء به والاستماع إليه مباشرة وهو يتلو كتاب الله.


وفي عصر النت واليوتيوب، فقد صار الكل يجد ضالته، في من كل ما ينزل من  تسجيلات للشيخ  مرئية كانت أم سمعية.


كانت رؤيا لي قبل فترة، حلمت فيها أن الشيخ يقرأ وأنا بجانبه، فدعوت الله أن يكون هذا الأمر في جنات النعيم، وتحفزت لأن أكتب عنه في ذكرى وفاته الثلاثين، في يومنا هذا الجمعة ٣٠ نوفمبر ٢٠١٨.


رحم الله الشيخ عبدالباسط محمد عبدالصمد، وجزاه كل خير، وجعل كل تلاواته (والتي ينتفع بها إلى يوم الدين)، في ميزان حسناته.



د. مجيد جميل ثابت
عدن
٣٠ نوفمبر ٢٠١٨م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق